لا يوجدنموذج لرمز ثوري عاش مع الناس وداخلها بقوة نموذج أرنستو تشي جيفارا (14 مايو 1928الى 9 أكتوبر 1967) المشهور بتشي جيفارا هو ثوري كوبي أرجينتيني المولد، كان رفيقفيديل كاسترو. يعتبر شخصية ثورية فذّة في نظر الكثيرين.
درس جيفارا الطب في جامعة بوينيس ايريس وتخرج عام 1953، وكانت رئتيه مصابة بمرض الربو، ولم يلتحق بالتجنيد العسكري بسبب ذلك . رتب وهو في السنة الأخيرة من دراسته لجولة حول امريكا الجنوبية مع احد اصدقائه على متن دراجة نارية وكونت تلك الرحلة شخصيته واحساسه بوحده امريكا الجنوبية واحساسه بالظلم الكبير من الدول الإمبريالية للمزارع البسيط الامريكي . توجه بعدها إلى غواتيمالا ، حيث كان رئيسها يقود حكومة يسارية شعبية ، كانت من خلال تعديلات ، وعلى وجه الخصوص تعديلات في شؤون الارض والزراعة ، تتجه نحو ثورية إشتراكية. وكانت الإطاحة بالحكومة الغواتيمالية عام 1954 بانقلاب عسكري مدعوم من قبل وكالة الاستخبارات الأمريكية ، قد تركت لدى جيفارا رؤية للولايات المتحدة بصفتها الدولة الامبريالية المضطهدة لدول أمريكا الجنوبية التي تسعى لتبني النظام الاقتصادي الاشتراكي.
قتل جيفارا في بوليفيا أثناء محاولة لتنظيم ثورة على الحكومة هناك، وتمت عملية القبض عليه بالتنسيق مع المخابرات الأمريكية حيث قامت القوات البوليفية بقتله وذلك بحشد أكثر من 2500 جندي لهذا الغرض ، وقد شبّت أزمة بعد عملية اغتياله وسميت بأزمة "كلمات جيفارا" أي مذكراته. وقد تم نشر هذه المذكرات بعد اغتياله بخمس اعوام وصار جيفارا رمزاً من رموز الثوار على الظلم.
تلقى جيفارا تعليمه الاساسي بالبيت على يد والدته ( سيرينا لاسيليا دي )، وكان جيفارا منذ صغره قارئا لماركس ، انجلز وفرويد حيث توافرت الكتب في مكتبة ابيه بالمنزل . التحق بصفوف مدرسة ( كوليجيو ناشيونال) الثانوية عام 1941 وتفوق في الادب والرياضيات. عايش في تلك الفترة مأساة لاجئي الحرب الاسبانية الاهلية والازمات السياسية المتتابعة في الارجنتين خلال عهد الديكتاتور الفاشي لجوان بيرون. غرست هذه الاحداث في ذهن جيفارا الصغير الاحتقار للمسرحية الديموقراطية البرلمانية وكره السياسيين وحكم الاقلية الرأسمالية وقبل ذلك كله حكم واستعباد دولار الولايات المتحدة الامبريالية .
خلال ذلك التحق بحركات طلابية لكنه لم يظهر اهتماما ملحوظا بالسياسة ثم التحق بالجامعة حيث درس الطب لفهم مرضه الخاص، لكنه فيما بعد اصبح أكثر اهتماماً بمرض الجذام. خرج عام 49 في رحلة يستكشف الأرجنتين الشّماليّة على درّاجة، و للمرّة الأولى يقابل فيها الطبقة الكادحة الفقيرة وقرر الخروج مرة اخرى عام 1951 في رحلة طويلة وطاف قبيل تخرجه من كلية الطب مع صديقه (ألبرتو غراندو) معظم دول أمريكا الجنوبية على الدراجة النارية, فزار إضافة لبلده الأرجنتين، التشيلي وبوليفيا وكولومبيا والإكوادور وبيرو وبنما وعايش معاناة الفلاحين والطبقة الكادحة من العمال وفهم طبيعة الاستغلال الذي تعانيه شعوب الدول المضطهدة وكيف يستغل الرأسمالي حاجة الفقراء ويخضعهم تحت تصرفه . سافر عام 1953 الى المكسيك وهي البلد الأمريكي اللاتيني الأكثر ديموقراطية والتي كانت ملجأ للثوار الأمريكان اللاتين من كل مكان. تعرف على (هيلدا جادي) التي كان لها مخزون ماركسي جيد مما
عزّز تعليمه السّياسي, اعتنت به و قدّمته لـ (نيكو لوبيزا) احد ملازمين (فيديل كاسترو) الذي كان في ذلك الوقت يقوم بالهجوم على قلعة موناكو حيث فشل هجومهواعتقل وحوكم وفي اثناء محاكمته اصدر بيانا سياسيا كان بمثابة برنامج سياسي يبيناهداف الحركة الثورية لفيديل ورفاقه .
اعجب ارنستو بشخصية فيديل وتمنى مقابلته وهذا ما كان بعد خروجفيديل عام 1955 من المعتقل . ادرك جيفارا في ذلك الحين انه وجد شخصية القائد الذيكان يبحث عنه. قويت علاقة الرفيقين ببعضهما وقاما بالتخطيط لتحرير كوبا من حكمالدكتاتور باتيستا. انطلق الثائرون ومعهم 80 ثائرا اخر على متن سفينة قاصدين شواطئكوبا . اثناء ذلك اطلق على جيفارا لقب تشي ( الصديق او الرفيق ).
سرعان مااكتشفتهم قوات ( باتيستا) وهاجمتهم ولم يسلم منهم سوى عشرون ثائراً صعدوا جبال ( السيرامايسترا) واعادوا ترتيب صفوفهم. نجحوا في اقناع الفلاحين والفقراء بضرورةالثورة فأمن ذلك لهم الحماية وان كانت محدودة وسرعان ما اثبتوا جديتهم وتلاحقتانتصاراتهم على جيش باتيستا الى ان وصلوا هافانا واعلنوا نجاح الثورة والقضاء علىحكم باتيستا وبعد نجاح الثورة عين جيفارا وزيراً للثورة وقام بزيارة العديد منالبلدان والتقى العديد من القادة امثال (جمال عبد الناصر) و(نهرو) و(تيتو) و(سوكارلو) ومن ثم عين وزيراً للصناعة وبعد ذلك وزيراً ورئيسا للمصرف المركزي . وكان بمثابة الرجل الثاني في الدولة بعد فيديل كاستروا . آمن منذ البدء بضرورةاعادة هيكلية النظام الاقتصادي لكوبا وفتح المصانع وذلك لسد احتياجات كوبا وعدملجوئها وخضوعها تحت الهيمنة الامبريالية.
وضحت معالم شخصية تشي الماركسيةاللينينية وتوجهه نحو سياسة (ماو-تسي يونج) وآمن بان الثورة تحضَر في الريف ومن ثمتنطلق الى المدن وخالف بذلك سياسة رفيقه فيديل الذي كان يميل للسياسة الشيوعيةالروسية في تلك الفترة .
بعد نجاح الثورة في كوبا آثر تشي ان يكمل حلمه في تحرير شعوبالعالم النامي ومساعدتهم بالتخلص من الحكم الاستعماري والهيمنة الامبريالية فغادركوبا تاركاً مناصبه وعائلته متجها الى الكونجو في افريقيا وبعد محاولته لتكوينالجيش الثائر فشل بعد رفض الشعب الافريقي للتعاون معه لاعتباره غريباً ولم يقتنعواباهدافه فكانت تجربة قاسية له ولكنه آثر إلا ان يكمل مسيرته فانطلق متجها الىبوليفيا واستطاع هناك ان يكون فرقا ثورية من الفلاحين والعمال والبدء بالثورة الاانه لم يستطع مواجهة الجيش البوليفي الذي كان اقوى ومجهزاً واحدث من جيش باتيستاوغير ذلك مساعدة النظام الامبريالي الامريكي للحكومة البوليفية فكان الامر شاقاًعليه ومع ذلك استمر الى ان قتل بعد ان القي القبض عليه .
اتسم تشي بشخصية سياسيةلها منطلقاتها ووجهة نظرها الخاصة فكانت له مواقفه الرافضة للهيمنة السوفيتية علىالثورة والتي كانت تميل الى مهادنة النظام الامبريالي فكان يؤكد مراراً على ضرورةالثورة ضد الهيمنة والاستغلال فردد باستمرار عبارته الشهيرة( لاحياة خارج الثورةولتوجد فيتنام ثانية وثالثة واكثر ).
نعم فقد كان لتشي اعداء كثر ولعل ذلك يكمن في اسلوبه الصريح في النقدومهاجمة المخطئ مهما كان.على اية حال فان تشي انتهت حياته علي يد جندي من جنودالجيش البوليفي وكما يقال بتعاون مع وكالة المخابرات المركزية الامريكية. ولعل سرسحر شخصية تشي يرجع الى تلك المواقف واسلوبه القوي وعناده ورفضه للهيمنة حتى لوكانت من مؤسسة شيوعية كالاتحاد السوفيتي. مهما كان فقد كان تشي الشخصية الاكثراثارة ومحبة في قلوب الشعوب المضطهدة حول العالم وستظل صوره في قلوبنا وعلى صدورنافاحلامه واحلامنا لاتعرف حدود .
سقوط جيفارا قتيلاً
بدأت المرحلة الاخيرة منالمطاردة التي استمرت أكثر من سنتين ،واستعملت الولايات المتحدة مختلف الوسائلللقضاءعلى موجة حرب العصابات التي يقودها "تشي" جيفارا ، في ابريل 1967 ، بعد انالقت السلطات البوليفية القبض على المفكر الفرنسي الماركسي ريجيس دوبريه ، واتهمتهبالتعاون مع جيفارا وأنصاره ، وسجنته وعذبته لتنتزع منه اعترافا بمكان جيفارا . وبعد ذلك بفترة قصيرة ، أعلن رئيس الجمهورية البوليفية الجنرال رونيه بارينتوس بأنهواثق هذه المرة من القبض على جيفارا حيا أو ميتا. ولم يكن بارينتوس يعتمد في عمليةمطاردة واصطياد جيفارا على رجاله وحدهم ، ولا على بعض رجال العصابات الذين تخلوا عنجيفارا وحاولوا الكشف عن مكانه ، بل كان يعتمد على قوات متخصصة في حرب العصاباتوالتصدي للثوار بوسائل علمية مدروسة دقيقة .
ففي باناما، أنشأت وزارة الدفاعالامريكية سنة 1949 مدرسة حربية وسلمتها للجنرال بورتر . وفي هذه المدرسة يتدربجنود أمريكيون من مختلف أنحاء امريكا الجنوبية والشمالية ، على يد ضباط يمتازونبكفاءة علمية عالية ، ويتخرجون متخصصين بالحرب في مناطق أمريكا اللاتينية الصعبةالشائكة . لكن هذه المدرسة ادخلت في السنوات الاخيرة بابا جديدا على منهاجها ، وهوتدريب الجنود على اصول واساليب حرب العصابات ، لمواجهة موجات الثوار في امريكااللاتينية . واستمر التدريب اربعين اسبوعا" ، يخضع خلالها الجنود لاشد وأقصى أنواعالتدريب العسكري ، ويضع في الظروف نفسها التي سيتعرض لها حين يواجه رجال العصاباتفي الجبال والغابات .
كان هؤلاء الجنود ، المدربون على ايدي القبعات الخضر - وهو اللقب الذي يطلق على مدرسة باناما - هم الذين يطاردون جيفارا، وينصبون له الفختلو الفخ ، لايقاعه والقضاء عليه. واستمرت هذه العملية شهورا، حتى جاء الخريف ،واطل شهر اكتوبر، فإذا بالجنرال بارينتوس يعلن للصحافيين ان القوات المسلحة ، وهويقصد فيها القوات التي تدربت في مدرسة باناما ، تحاصر جماعة من رجال العصابات وعلىرأسها القائد رامون وهو احد اسماء جيفارا المستعارة. وقال بارينتوس هذه المرة سوفنقبض على "تشي" ولن يستطيع ان يهرب منا ". لكن القوات لم تستطع ان تقبض الا علىثائرين من رجال " رامون " اعترفا بأن تشي هو فعلا قائدهما وأنه موجود في مكان مابالقرب من منطقة ( فاليغراندي) .وقال الرجلان بأن مرض الربو قد اشتد على جيفارا ،ولم يعد يستطيع التنفس الا بصعوبة ، وانه لا يتحرك الا على ظهر بغل ، وهو لا يهتمبشيء ، ويظهر احتقارا بالغا لحياته. وبعد ايام من القبض على الرجلين ، وفي مساء يومالاحد 8 اكتوبر ، دارت معركة طاحنة بين القوات المسلحة وبين رجال العصابات في منطقة (هيغوبراس) بالقرب من فالنغراندي واستبسل الثوار ، وفي النهاية أسر ستة من رجالهم ،وبينهم تشي جيفارا.
وتقول بعض الروايات البوليفية عن موت جيفارا ، ومنها روايةالقائد الاعلى للقوات البوليفية الجنرال الفريدو اوفاندو ، ان جيفارا قال قبل وفاته، وهو في ساعات احتضاره الاخيرة: " انا تشي جيفارا. لقد فشلت ". لكن الكولونيلسانديكو ، وهو الذي قاد الحملة المسلحة ضد جيفارا وثواره ، ذكر أن تشي ظل فاقداوعيه حتى مات. وهناك رواية اخرى ، نسبتها احدى الصحف البوليفية الى بعض الضباطالذين طاردوا تشي جيفارا ، وتقول ان جيفارا اسر حياً ، وحاول الطبيب معالجته منالجروح التي اصيب بها لكن الالم كان شديدا عليه ، ومرض الربو كان يمنعه من التنفسالا بصعوبة. وقضى ليلة الاحد في حالة نزاع شديد ، يئن من الاوجاع والزفير ، يطلب منالطبيب أن يعالجه ، حتى قضى عليه الألم في صباح الاثنين بعد ان خارت قواه تماماوعجز الطبيب عن اسعافه. ورواية أخرى تقول ان جيفارا تعرض للتعذيب بعد القاء القبضعليه ، لكنه لم يعترف بشيء فقتله احد الضباط برصاصة سددت الى قلبه. وكما تعددتالروايات حول مقتله ، تعددت الروايات حول طريقة تعقبه والقاء القبض عليه. ومن هذهالروايات ولعلها الاقرب الى الصحة ، ان احد رجال العصابات ، من رفاق " تشي " القدامى ، وشى به الى السلطات البوليفية بعد ان أغرته الجائزة التي خصصتها هذهالسلطات للقبض على عليه ، وهي في حدود خمسة الاف دولار .
وكان مؤلما حقا أن تشيالذي امن طوال حياته بالاخوة الحقيقية والصداقة والاخلاص والتضحية بين البشرية ،وعاش عليهم، وتنتهي حياته بان يبيعه رفيق سلاح قديم ، لان المال كان اقوى من القيموالمبادئ التي يمثلها جيفارا او يدعو اليها .
ولم تصدق عائلة تشي انه مات . لاالاب ، ولا الشقيق ، ولا أي فرد من افراد العائلة . فظلوا ينتظرون بين اللحظةوالاخرى ان يحمل اليهم البريد ، او صديق من الاصدقاء ، رسالة من الابن المشرد ،يعلن فيها للعالم انه ما زال حياً، ويسخر ، كعادته من الموت.
نهاية تشي جيفارا
نشر فليكس رودريجيس، العميل السابق لجهاز المخابرات الأميركية (CIA) من طريق الشبكة العنكبوتية صوراً لا سابق لها عن إعدام تشي جيفارا. وتمثل هذه الصور آخر لحظات حياة هذا الثوري الأرجنتيني قبل إعدامه بالرصاص ب"لا هيغويرا" في غابة "فالي غراندي" ببوليفيا، في 9 أكتوبر(تشرين الأول) من عام 1967.
وتظهر الصور كيفية أسر تشي جيفارا، واستلقائه على الأرض، وعيناه شبه المغلقتان ووجهه المورم والأرض الملطخة بدمه بعد إعدامه. كما تنهي الصور كل الإشاعات حول مقتل تشي جيفارا أثناء معارك طاحنة مع الجيش البوليفي.
وقبيل عدة شهور، كشف السيد فليكس رودريجيس النقاب عن أن أيدي تشي جيفارا بُترت من أجل التعرٌف على بصمات أيديه .